تكون صرخة واحدة.. مجرد صرخة تعطى إشارة البدء وتعلن عن المصيبة.. تنتظر النساء قليلاً جداً.. يتحسّسن صدى الصوت.. يتأهبنّ.. أو ربما ينتظرن صرخة أخرى ليتأكدن أنها فعلاً كانت صرخة وأنها بحق مصيبة.. يتسمّعن الصرخة جيداً ليقدّرن حجم المصيبة وحجم صرخاتهن المطلوب فيما بعد.
لكنها هذه المرة كانت صرخة واحدة وكانت كافية جداً, بعدها مباشرة وبمجرد إنطلاقها تاهت وضاعت وسط زحام متنوع من الصراخ والعويل أطلقته النساء مباشرة وبتلقائية تضامناً مع صاحبة الصرخة الأولى.. صرخات غريزية تصبح وسيلة التخاطب السريعة والوحيدة.. ينطلقن بعدها للشارع ليجمعن شمل الصراخ حول الصرخة الأم, وفى عين كل واحدة دهشة وفى الأخرى تساؤل "من ترى فى مصيبة ؟! وفى هذه الجمعة المباركة ؟!"
, والمصيبة قد تصبح مصيبة أخرى عندما تنزلق منها وأمام مرأى الجميع رائحة الفضيحة.
وكعادتها, الفضيحة تكتمل دون ترتيبات من أحدهم. تكون الترتيبات (إترتبت خلاص), تصبح مثل كارثة وقعت مباشرة فوق القرية الصغيرة الفاترة أحداثها دوماً.. مفاجئة, لكنها ليست بالضرورة مفجعة تماماً, فى وقت كهذا من يوم مختلف عن الستة الآخرين.. مختلف أكثر عند "إبراهيم الأعرج", تاجر الخُضار الأشهر فى البلد والمعروف فى جميع الأسواق المحيطة بالبلد.. وهذا اليوم يخلو من أى سوق فى أى بلد يعرفها "إبراهيم" سوى بلاد الكفرة التى لا يعرفها إبراهيم.
و مع ذلك فإنه تعوّد أن يصحو كل يوم مع أول شعاع للشمس يلامس شباك بيته.. حتى فى هذا اليوم, يصحو فى نفس الموعد بلا تذمّر كأنه إستمتع بكل النوم..
- - - - -
فى هذا اليوم يخرج "ابراهيم" من بيته وهو يُذّكـر نفسه بالآية القرآنية "ليس على الأعمى حرج, ولا الأعرج حرج", متحايلاً على قدمه السليمة, متحاملاً على الأخرى العرجاء, قاصداً المسجد.. هو إعتاد الخروج متوضئاً طاهراً, فالناس فى هذا الوقت تتكدّس وتتزاحم أمام الحمًامات والحنفيات, لا همّ لها سوى إحداث زيطة وجلبة.. يكاد الأمر يتحول –هكذا بالعافية– سوقاً أخرى فى هذا اليوم الحرام..
إعتاد المرور على جاره الشيخ "زكريا" لإصطحابه, مع أن بيتهما معاً غير بعيدين عن المسجد حتى أن زوجة الشيخ كثيراً ما تصلى الفجر فى البيت متلمّسة بأذنيها صوت الإمام القادم من المسجد على بعد خطوات معدودات بينما زوجها كالعادة فى نومه العميق..
إبراهيم يحب الشيخ لأنه ضرير ويعتبره صندوق علم من صناديق الله المباركة ولا يبخل عليه بأى شىء يطلبه بطريقته خلال حديثه معه وهو يحلو له دوماً أن ينصت لكلامه. وكلام الشيخ لا ينقطع أبداً.. الشيخ فى هذا اليوم كان ينتظر إبراهيم بالفعل عند باب البيت..
حيّاه إبراهيم وسحب ذراعه حول يده ليسحبه لكنه لم ينتبه إلى أن الشيخ زكريا قد سمّر قدميه المفلطحتين فى الأرض وتوقف إلا عندما وجده لا ينقاد معه.. بل إستدار نحوه وأمال رأسه لأعلى كأنما يخفى عينيه كى لا يراهما إبراهيم!! أحياناً ينسى إبراهيم نفسه بالفعل ويظل محدّقاً فيهما. فاجأه الشيخ :
- "مش أنا ليلة إمبارح شوفت لك رؤية"
همّ إبراهيم أن يسأل هذا الضرير عمّا رآه بقلبه لكن الضرير عاود الحديث وحده ..
- " دى رؤية خير وبركة إنشاء الله, قال شوفت اللهم اجعله خير إن الرسول صلى الله عليه وسلم ...
, قاطعه إبراهيم مردداً
-" عليه الصلاة و السلام ...
-" ... راح ايه .. يزورك فى البيت .. بعدين راح مناولك بتاع لتر مايه .. مايه ريانى من الجنة .. عمرى ما شوفت زيها قبل كده .. اللهم اوعدنا يا رب ... و بعدين قايلّك خد, خد يا بو حنفى ...
-" الرسول قاللى كده؟!.. ابو حنفى ..
-" أيوه .. قالك خد يابو حنفى .. اشرب .. اشربه كله مرة واحدة و بكره زرعك يملا أرضك و تشوف عيال عيالك , المهم انت أخدت المايه و رحت زالطها مرة واحدة , أقولك يا ابراهيم سيب لى شوية, لاقيتك شربتها كلها, بالهنا و الشفا بقى ...
و ضحك معه إبراهيم قبل أن يكمل الشيخ
- " بس أنا ربنا عوّضنى برضه .. الكوسة اللى بعتها كانت زى السكر .. ربنا يكرمك يا أصيل .. بس مش عارف الواحد نفسه فى المحشى اليومين دول .. هو إحنا فى شهر إيه يا إبراهيم ؟.."
لم يضحك إبراهيم معه هذه المرة.. إستولى عليه حديث الشيخ, حتى أنه أكمل سيره وحده دون أن ينتبه إلى توقف الشيخ مكانه والذى بدوره لم ينتبه الى إبتعاد ابراهيم عنه.. لدقيقة, ظن الشيخ أن كلامه لم يعجب ابراهيم الذى عاد له وهو يتمتم " كله بتاع ربنا " و يفكر فى أن تلك لابد رؤية صالحة, وأن هذا الرجل بركة.. فالعميان صناديق علم وبصيرتهم ترى أكثر من المبصر ذاته, هم شيوخ حتى لو كان زكريا هذا أميّاً ولا يصلى الفجر ولا يحفظ من القرآن إلا كما يحفظ الطفل الصغير ووجد نفسه تنساق خلف أفكار أخرى, سرعان ما نفضها وهو يستغفر الله..
- - - - -
"إبراهيم" لا يجلس بجوار الشيخ, لسبب لا يعلمه.. هو يُـجلس الشيخ دائمًا بجوار أحد أعمدة المسجد.. أحياناً, عندما ينظر له يتخيله نائماً فى الخطبة لكنه لا يتأكد فعينى الشيخ دائمأً مغلقة.
هو يُفضّل الصف الأول بجوار الحائط حيث يمكنه أن يسند ظهره ويستريح خلال الخطبة الطويلة الذى تُشعره دائماً بالذنب لأنه لا يتذكرها أبداً بعد إنتهاء الصلاة.. لكنّه تعوّد أن يواسى نفسه بأن الإمام لا يقول شيئا جديداًَ, لذلك تعوّد أن لا ينصت لها وفى هذا الوقت تحديدأً, كان حديث الشيخ لا زال يجتر ذهنه.. ولم ينتبه الى الناس التى توافدت على للمسجد لتحجز الأماكن الأفضل أو الى الإمام المتحمس بخطبته..
- - - - -
بلا أى مقدمات شبّ "إبراهيم" واقفاً فجأة, وهو يستند على الحائط, فى حركة لفتت إنتباه الإمام فوق منبره وبدا أن ذاكرته إضطربت للحظات قبل أن تعاود التدفق آلياً.. إضطرب سير ابراهيم أيضاً.. أحسّ أن الجميع يراقبه لكن عذره القوى جعله لا يأبه بهم.. وعندما مرّ على الشيخ حمد الله على عماه..
ظنّ "إبراهيم" فى البدء أن رغبة ملحّة إستولت عليه لدخول الحمام.. عضلات مثانته القوية عادة لم تعد صامدة أمام لتر الماء اليورى المخزون بداخلها.. أو هكذا كان مستعداً بهذا الرد..
لكنه عندما مرّ أمام حمّامات المسجد, لم يفكر فى دخول أى منها.. وتوجه مباشرة نحو بيته.. على بعد خطوات معدودات
الواقع الذى يدركه "إبراهيم" وحده أن حديث الشيخ زكريا تسرب داخله كنقطة زيت حارة أشعلت خياله المتحفز وملأته بأفكار كثيرة كان يستمتع بتكرارها فى عقله, نسله الذى سيملأ الأرض.. "صباح"زوجته.. والأطباء المغفلين يقولون أن المشكلة تكمن فيه هو وليس فيه وكلاماً عن أن ماءه مش كفاية!".. لكن كلام الشيخ, صندوق العلم يقول لهم" طظ".. "الدكاترة ماليين البلد والأمراض بتكتر أكتر منهم ".. كانت بقعة الزيت تتمدد داخله حتى إحتوت تفكيره كله قبل أن تنكمش ثانية لتستقر فى موضع أخر جعلت كل أفكاره تختفى سوى فكرة واحدة تكثفت وإنحصرت ملامحها كلها فى حجرة النوم.. إنحصرت أكثر فى الحدود الوردية لجسد لزوجته.. توغلت فى الكثافة داخل بقعة عميقة فى تلك الحدود الشهية, والأطباء يقولون أنه يحتاج لاصلاح.."طظ"!!
ولم يكن نهوضه المفاجىء للإمام فى المسجد إلا ردة فعل تلقائية لم يملك لها كبحاً..
- - - - -
قطع "إبراهيم" الخطوات المعدودات بسرعة غير معتادة.. لم يؤخره فى فتح الباب سوى المفتاح الذى سقط منه وهو يخرجه من صديريته وعندما إنحنى ليلتقطه أحسّ بصلابته الشديدة وأنفرجت شفتيه عن إبتسامة إعجاب بنفسه..
- - - - -
"العميان صناديق العلم.. تختلف فى أحجامها التكعيبى ومحتواها العلمى لكنهم على العموم صناديق علم ولديهم سمة البركة والقداسة الربّانية و"الولد لو جاء ولد كما يتمنى" سيذبح جملاً بحاله يهبَـه للخالق ويوزعه على غلابة البلد.. بالتأكيد سيسامحه الله لتركه المسجد وقت خطبة الجمعة.. هو لن يفوّت الصلاة حتى يبارك الله في الولد "وعلى أية حال, هو سمع الإمام مرة يقول أن الأجر الذى سيأخذه يوازى عند الله أجر الجهاد أو أكثر"!!.. وسيعطى الشيخ وِركاً بكامله, وقد يسميه زكريا على إسمه, لكنه لن يصبح مثله!
- - - - - -
الصرخة.. الصراخ كان كافياً ليجعل الرجال تتطلّع إلى بعضها البعض وهم أكثر دهشة و تساؤلاً.. كل واحد منهم يُجهد عقله ليتذكر كيف ترك بيته قبل أن يخرج منه لصلاة الجمعة.. فى الواقع تكون لحظات قليلة جداً تلك, بعدها يكون الجميع فى الشارع.. الرجال, بلا تفكير تركوا الإمام وحيداً فى المسجد وإنضموا لنسائهم.. والنساء كن قد تركنّ مطابخهنّ وبيوتهن وهرعن إلى الشارع.. تجمّعن حول موضع الصرخة الأولى.. والجميع يتطلع لبعضهم البعض.. الرجل يبحث عن إمرأته حتى إذا رآها تصرخ تلك الصرخة الآلية, تنهّد مطمئناً لكنه يلعنها فى سره.. والمرأة تقع عينيها على رجلها فتزداد حدّة تلك الصرخة كأن المصيبة مسّتها هى دون غيرها.. ينظر لها الرجل بغيظ فتصمت حتى تسمع أخرى تصرخ فلا تمنع نفسها وينطلق الصراخ ثانية ..
كان الجميع قد إحتشد أمام البيت المغلق حيث ولدت الصرخة الأم وإختنقت سريعاً..
والبيت كان بيت "إبراهيم" ورغم أنهم بحثوا عنه فى الجمع لكنهم لم يعتقدوا أنه بالداخل وإلا كان ليفتح الباب..
- - - - -
"إبراهيم" فتح الباب وهو يصطنع كحة غليظة معلناً عن وجوده السلطوى, إنعشته رائحة البخور العطرة تملأ البيت, إعتادت زوجته على إشعاله كل جمعة لكنها لم تقابله هذه المرة كما إعتادت.. أغلق الباب خلفه والإبتسامة الصافية تنيسط أكثر على جانبى فمه.. إنتظر قليلاً يعدّل هيئته وعمّته ليسهل الأمور ويحفز الرسول بينه وزوجته.. تمنى لو فاجأها فى الحمام وهى تستحم كعادتها بعد إنتهائها من إعداد الغداء.. تسلل نحو الحمام بهدوء لكن ضحكتها وصلت له من مكان آخر, ضحكة ناعمة لم يسمعها منذ ليلة زواجه. لكنه لا يزال يتذكرها, زوجته!!.. إقترب أكثر من غرفة النوم وهو يُرهف السمع أكثر, فسمع صوتاً آخر ذكرياً!!
دفع الباب بعصبية ونطّت صورة أخرى من ذاكرته, لكنها هذه المرة لشكل لم يره سوى مرات قليلة, إحداها أيضاً كانت ليلة زواجه.. زوجته عارية تماماً من قمة راسها الهائج حتى كعب رجلها المحنأ والذى لم يره إلا بعد أن رأى شيئاً فى لون الجسد البشرى يقفز تحت السرير..
إبراهيم غير مصدّق, تقدّم نحو زوجته كوحش هائج, لكن قدمه العرجاء تعثّرت فوقع على ركبته ولمح عينين مرعوبتين تحت السريرالمظلم لكن للحظة قبل أن يقفز الجسد الذكرى مختفياً بعريه ورعبه..
نهض إبراهيم ثانية وقفز على زوجته التى تكوّرت بجوار الحائط مرعوبة هى الأخرى. لطمها لطمة كادت أن تدير وجهها للخلف ثم أطبق على رقبتها بكل ما فيه من قوة, وغضب وهو يصيح بكلام نصفه غير مفهوم:" يا شرموطة, يا بنت الكلب.. ده أنا اللى خليتك كرنبة, وأكّلت زكريا كوسة"!! وهى تحته تحاول أن تتملّص من تحته لتهرب وتحدث صوتاً كصوت الماء المترقرق أو صياحاً بالكاد ينطلق.. وهو يضفط أكثر على رقبتها حتى صمت الصوت وسكنت حركة جسدها.. شهق إبراهيم بغضب وإتقدّت عينيه بشرار أكثر.. توجّه نحو الشباك لكن لا أثر للرجل الذى كان معها. حاول أن يقفز من الشباك ليلحق به هو الآخر لكن عرجه أوقعه لينتبه بعدها للأصوات بالخارج وفكّر ربما كان الرجل معهم بالخارج او ربما أمكنه اللحاق به من الجهة المقابلة فى الشارع! وهو يحاول جاهداً أن يميز وجهه ويتذكر من هو الرجل بالتحديد!! - - - - -
إبراهيم لا يزال غير مصدّق لكنه يتذكر الآن أن كل شىء حدث بسرعة وأن لطف الله أرسله ليراها على حقيقتها ويرسلها لجحيمه.. "الشرموطة بنت الكلب اللى لمّها من الشارع ونضفها وعملها ست"..
لحظات أطول قبل أن يكون "إبراهيم" واقفاً أمام باب البيت بوجه غريب ولولا عرجته ما تعرفوا عليه ربما.. الأغرب كانت تلك البقعة المبللة على نصف جلبابه الأسفل
كان الجميع ينظر له محاولين فهم شىء لكن دون جدوى.. كان الأمر غريباً وغامضاً جداًً على الجميع, ما علاقة الصرخة بحق إبراهيم الطبيعى فى التبول؟!.. لم يفهم أحد, ربما الوحيد الذى كان بإمكانه تفسير ذلك لم يكن موجوداً
ففى نفس الوقت تقريباً, على بعد خطوات معدودات كان يُسمع صوت الإمام, يوشك على إنهاء الصلاة التى لا يصلى خلفه أحد, اللهم إلا الشيخ زكريا والذى لم يكن سوى سانداً رأسه على عمود المسجد, ويسمع له صوتاً كالشخير وربما يحلم بأنه يأكل محشى!!
اللعنة عليك يا عدو الله
ردحذفمش مكسوف م اللى كاتبه مش خايف من ربنا!!!!!!!!!!!
انت واللى زيك مش كفاية فيهم القتل يا خنازير يا عبي الصليب