من الصعب الكتابة عن هذا الفيلم الطويل (أصلاً) أو تحليل مشاهده الكثيرة, وكل الكتابات عن الفيلم تختلف فى عرضها وفهمها للفيلم وقصته لكنها جميعاً تتفق أنه ليس مجرد تحفة فنية, بل حدث إستثنائى فى تاريخ السينما
وهو أمر محزن فهو غير معروف كثيراً عندنا ومحزن عندما تجد بعض الأفلام الهوليودية التى هى مجرد هراء تطغى على شهرة فيلم مثله (أو غيره طبعاً)
الفيلم ببساطة ليس من نوعية الأفلام التى نعتادها ونعرفها وليس ثمة حدث ممتد أو خط درامى واضح وواحد يمتد طولاً أو عرضاً خلال زمن الفيلم.. بل كل مشهد فى الفيلم هو لوحة فنية تـُذكرك بأعمال "إدوارد هوبر" أو "كاسبار ديفيد فريدريش" وتفوقها جمالاً فى بعض الأحيان بما تضيف من متعة بصرية خالصة تمتزج فيها الصورة مع الموسيقى التى لا تقل جمالاً عن الفيلم ككل مع النص المتدوال كقصيدة من الشعر الفرنسى الرمزى أو السريالى, لتصنع فى النهاية حالة فنية مدهشة مُلهمة..
بجانب أنه فيلم فلسفى وفكرى بالمقام الأول, سواء فى طرحه لموضوع أثير عند الجميع (الذكريات) أو مسألة معقدة أعيت الجميع فكراً وأعنى الحياة وأزمة الإنسان الوجودية.. هو فيلم وجودى لكنه - كفلسفة وفكرة - يعرضها بكل بساطة وكل جمال.. ومن النادر ألا يتأثر بالفيلم من يشاهده
"ألكسندر" ( بطل الفيلم ) كاتب خمسينى أو ستينى, وحيد, أرمل, أنفق سنوات عمره فى البحث عن تكملة قصيدة لم يُكملها الشاعر اليونانى "ديونيسيوس سولوموس" الذى عاش فى القرن التاسع عشر منفياً فقد خلالها -الشاعر- معانى الكلمات وضاعت منه لغته وراح يبحث عن الكلمات ويشتريها فيعطى بنساً لمن يعلمه أو يدله على كلمة جديدة حتى ينهى قصيدته التى لم تكتمل ابداً!!..
ويصبح ألكسندرنفسه صورة مماثلة من شاعره, فيمضى طوال اليوم الذى هو زمن أحداث الفيلم, تائهاً وجائلاً خلال الشوارع وعبر الطرقات وبإمتداد الشاطىء يُفتش عن ذكرياته الماضية التى تتداخل مع واقعه الحاضر.. باحثاً ومستكشفاً لحياته وذكرياته مع زوجته ومع فرصه الضائعة حتى يقابل بالصدفة طفلاً ألبانياً, وفى نفس الوقت مهاجراً غير شرعياً.. يساعده فى الإختباء من الشرطة, ليبدو بعدها كما لو كان ألكسندر فى حاجة للطفل أكثر من حاجة الطفل لمساعدة ألكسندر..
كل هذا كلام عادى وبالطبع ثمّة أحداث ووقائع ليست بالكثيرة طبعاً مثل الأفلام العادية (كحواره مع إبنته أو صديقه الوحيد وجاره فى نفس الوقت, الذى لا يراه أبداً وحوارهما عن طريق الموسيقى...) لكن المخرج يعطي كل ذلك أولوية ثانية,
الفيلم ليس عن الحدث أكثر مما هو عمّا وراء الحدث وليس عن القصة أكثر مما هو عن تفاصيل غير معلنة خلف القصة نفسها
أو بمعنى آخر, ليس الفيلم عن الأبدية لكنه عن يوم واحد يجعل الأبدية نفسها لا شىء مهم أو على أقل تقدير يتساءل ماهى الأبدية بالتحديد !!
ونلحظ ذلك فى طربقة عمل الفيلم نفسه وحركة الكاميرا وشكل المشهد.. الفيلم أشبه بكتلة تذكّر متدفقة أو رحلة مكثفة فى عقل ألكسندر وذكرياته عبر مشاهد شديدة الجمال, كأن كل مشهد لوحده لوحة فنية, وبكاميرا تنتقل بنعومة وببطء شديدين..حتى مشهد الفرح فى الشارع, مشهد يجدر أن يكون مبهجاً و راقصاً لكنه يمضى بطيئاً والعروسين كما لو كانا فى أحد الطقوس الغريبة لحدث حياتى غامض مجهول!! ..
لا شىء يستحق العجلة ومتعة الذكرى الممزوجة بالشجن تستحق تريثأ والمخرج كأنما إختار هذا اليوم بالتحديد السابق لذهاب ألكسندر للمستشفى وهو يبدو غير عابىء بمرضه أو بيومه الأخير
كأنما يريد أن يقول أن حياة المرء لا تنتهى فى المستشفى أو يُنهيها المرض أو الموت, بل ذكرياته هى ما تفعل والنهاية تأتى بإختيار المرء نفسه,
وأزمنة الفيلم تتداخل مع بعضها كأنك فى حلم سريالى.. يبدأ الفيلم بـ"ألكسندر"وهو طفل صغير ليتحول بعدها إلى الحاضر ثم ينتقل ثانية إلى عصر الشاعر اليونانى فى القرن التاسع عشر فى تدفق وإنسيابية, ومع الموسيقى الرائعة فى الخلفية لا تلحظ أنك تشاهد حياة ألكسندر نفسه بقدر ما تشاهد الحياة فى مُجملها !!
الفيلم يحوى فناً وجمالاً ويحوى فلسفة وفكراً ويحوى إلهاماً
وإن لم تكن شاهدت هذا الفيلم, فإنسى إنك شاهدت سينما وشاهده
وهو أمر محزن فهو غير معروف كثيراً عندنا ومحزن عندما تجد بعض الأفلام الهوليودية التى هى مجرد هراء تطغى على شهرة فيلم مثله (أو غيره طبعاً)
الفيلم ببساطة ليس من نوعية الأفلام التى نعتادها ونعرفها وليس ثمة حدث ممتد أو خط درامى واضح وواحد يمتد طولاً أو عرضاً خلال زمن الفيلم.. بل كل مشهد فى الفيلم هو لوحة فنية تـُذكرك بأعمال "إدوارد هوبر" أو "كاسبار ديفيد فريدريش" وتفوقها جمالاً فى بعض الأحيان بما تضيف من متعة بصرية خالصة تمتزج فيها الصورة مع الموسيقى التى لا تقل جمالاً عن الفيلم ككل مع النص المتدوال كقصيدة من الشعر الفرنسى الرمزى أو السريالى, لتصنع فى النهاية حالة فنية مدهشة مُلهمة..
بجانب أنه فيلم فلسفى وفكرى بالمقام الأول, سواء فى طرحه لموضوع أثير عند الجميع (الذكريات) أو مسألة معقدة أعيت الجميع فكراً وأعنى الحياة وأزمة الإنسان الوجودية.. هو فيلم وجودى لكنه - كفلسفة وفكرة - يعرضها بكل بساطة وكل جمال.. ومن النادر ألا يتأثر بالفيلم من يشاهده
I am: yet what I am none cares or knows
My friends forsake me like a memory lost,
I am the self-consumer of my woes -
They rise and vanish in oblivious host,
Like shadows in love’s frenzied, stifled throes-
And yet I am, and live – like vapors tossed
- John Clare
My friends forsake me like a memory lost,
I am the self-consumer of my woes -
They rise and vanish in oblivious host,
Like shadows in love’s frenzied, stifled throes-
And yet I am, and live – like vapors tossed
- John Clare
ويصبح ألكسندرنفسه صورة مماثلة من شاعره, فيمضى طوال اليوم الذى هو زمن أحداث الفيلم, تائهاً وجائلاً خلال الشوارع وعبر الطرقات وبإمتداد الشاطىء يُفتش عن ذكرياته الماضية التى تتداخل مع واقعه الحاضر.. باحثاً ومستكشفاً لحياته وذكرياته مع زوجته ومع فرصه الضائعة حتى يقابل بالصدفة طفلاً ألبانياً, وفى نفس الوقت مهاجراً غير شرعياً.. يساعده فى الإختباء من الشرطة, ليبدو بعدها كما لو كان ألكسندر فى حاجة للطفل أكثر من حاجة الطفل لمساعدة ألكسندر..
كل هذا كلام عادى وبالطبع ثمّة أحداث ووقائع ليست بالكثيرة طبعاً مثل الأفلام العادية (كحواره مع إبنته أو صديقه الوحيد وجاره فى نفس الوقت, الذى لا يراه أبداً وحوارهما عن طريق الموسيقى...) لكن المخرج يعطي كل ذلك أولوية ثانية,
الفيلم ليس عن الحدث أكثر مما هو عمّا وراء الحدث وليس عن القصة أكثر مما هو عن تفاصيل غير معلنة خلف القصة نفسها
أو بمعنى آخر, ليس الفيلم عن الأبدية لكنه عن يوم واحد يجعل الأبدية نفسها لا شىء مهم أو على أقل تقدير يتساءل ماهى الأبدية بالتحديد !!
الغربة والوحشة الوجودية
(من أجمل مشاهد الفيلم, عندما يصحب ألكسندر الطفل إلى ضباب الحدود ليعيده إلى بلده)
ونلحظ ذلك فى طربقة عمل الفيلم نفسه وحركة الكاميرا وشكل المشهد.. الفيلم أشبه بكتلة تذكّر متدفقة أو رحلة مكثفة فى عقل ألكسندر وذكرياته عبر مشاهد شديدة الجمال, كأن كل مشهد لوحده لوحة فنية, وبكاميرا تنتقل بنعومة وببطء شديدين..حتى مشهد الفرح فى الشارع, مشهد يجدر أن يكون مبهجاً و راقصاً لكنه يمضى بطيئاً والعروسين كما لو كانا فى أحد الطقوس الغريبة لحدث حياتى غامض مجهول!! ..
من المشاهد الأروع, مشهد الباص.. عندما يصعد إلى الأتوبيس أحد المحتجين وبيده علم أحمر (هل يقصد وهج وثورة
الشيوعية) لكن المشهد والباص يمضيان ببطء ومعه تخفت أصوات المحتجين بالخارج وتزحف الموسيقى بهدوء داخل المشهد لتتوقف ثانية فى المحطة التالية, وتصعد ثانية فرقة موسيقى صغيرة وتبدأ بالعزف وبينما غط صاحب العلم الأحمر فى النوم, وإنشغل محصل التذاكر بعمله,وحده ألكسندر والطفل ينصتان لعزف الفرقة وهما يواجهان الكاميرا أو يواجهان المشاهد نفسه.. ليس مشهد فى فيلم, بل مشهد من الحياة..!!
وفى مشهد آخر, سريالى رائع, يقابل الشاعر نفسه الذى يتلو عليه بعضأً من شعره
لا شىء يستحق العجلة ومتعة الذكرى الممزوجة بالشجن تستحق تريثأ والمخرج كأنما إختار هذا اليوم بالتحديد السابق لذهاب ألكسندر للمستشفى وهو يبدو غير عابىء بمرضه أو بيومه الأخير
كأنما يريد أن يقول أن حياة المرء لا تنتهى فى المستشفى أو يُنهيها المرض أو الموت, بل ذكرياته هى ما تفعل والنهاية تأتى بإختيار المرء نفسه,
وأزمنة الفيلم تتداخل مع بعضها كأنك فى حلم سريالى.. يبدأ الفيلم بـ"ألكسندر"وهو طفل صغير ليتحول بعدها إلى الحاضر ثم ينتقل ثانية إلى عصر الشاعر اليونانى فى القرن التاسع عشر فى تدفق وإنسيابية, ومع الموسيقى الرائعة فى الخلفية لا تلحظ أنك تشاهد حياة ألكسندر نفسه بقدر ما تشاهد الحياة فى مُجملها !!
وصف النقاد الفيلم بأنه تحدياً لمفهوم السنيما, وآخرون وصفوه بأنه أشبه بلمحمة حديثة لهوميروس
" الأبدية ويوم"
هو عنوان الفيلم.. وقد تكون خلاصة رحلة الحياة , كما تصوّرها المخرج الفيلسوف صانع الفيلم "ثيو أنجيلوبولوس" ( والذى توفى فى يناير الماضى فى حادثة سير عبثية) وإستحق عليه سعفة "كان" الذهبية بكل جدارة, وهو صاحب فكرة الفيلم وكاتب قصته أيضاً
الفيلم يحوى فناً وجمالاً ويحوى فلسفة وفكراً ويحوى إلهاماً
وإن لم تكن شاهدت هذا الفيلم, فإنسى إنك شاهدت سينما وشاهده
- - - - - - - -
- "الأبدية ويـوم واحد" (الموسيقى)
- "الأبدية ويـوم واحد" (الموسيقى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق