( كان يفترض بهذا الموضوع أن يكون مجموعة من التدوينات المستقلة المتفرقة, لكننى جمعتهم معاً توفيرا للوقت وتشككى فى سرعة الانترنت عندى و تشككى الآخر فى جدوى إنتظاره .. )
طالما شاهدناهم فى الأفلام الفرنسية أو الأمريكية و ربما يذكرنا على وجه التحديد ب"جيمى فوكس" فى الفيلم الجميل The Soloist
و ما قام به فى هذا اليوم كانت فكرة تحقيق صحفى مميز نشر فى الواشنطن بوست عن الجمال والأذواق و أولويات الحياة
مسافة موجودة دائماً و يحلم الجميع بإجتيازها ليخطو فى ساحة التميز .. بعدها يمكن الإشارة على من تخطاها وتسميته بالفذ
هل تكفى تلك الأسباب ؟ لا أدرى
- - - - -
داخل إحدى محطات مترو الأنفاق بواشنطن, كان ثمّة رجل يقف منزوياً فى أحد أركان صالة المحطة.. كان الوقت فى منتصف ساعة الذروة الصباحية والجو بارداً جداً
رفع الرجل كمانه و بدأ يعزف عليها.. بدا مندمجاً جداً مع أنغامه و غير عابىء بزحام البشر المنظم فى أرجاء المحطة
ثلاث دقائق مرّت قبل أن يقترب رجل فى منتصف العمر منه بعد أن لاحظ عزفه .. أبطأ سيره و توقف لثوان معدودة قبل أن يواصل سيره بسرعة ليعوض وقته الضائع !!
دقيقة أخرى, و تلقى عازف الكمان أولى دفعات بقشيشه : دولار واحد ألقته إمرأة دون أن تتوقف أو تنظر له حتى
دقائق أخرى .. كان أحدهم يستند على الحائط و يستمع لعزفه.. قبل أن ينتبه ويلقى النظر ساعته ليبدأ السير مجددا .. واضح أنه تأخر عن العمل
الوحيد الذى إنتبه للعازف و أنغامه كان مجرد طفل صغير عمره لا يتعدى 3 سنوات .. كانت أمه تمسكه من يده عندما تسمر الطفل فى مكانه وراح ينظر للعازف وأمه تشده وتدفعه ليواصل السير.. الطفل أرضخ و انساق مع أمه لكنه كان ما يزال يدير وجهه نحو العازف خلال سيره
تكرر هذا المشهد بالتحديد مرتين على الأقل .. الطفل يجبر أمه أو أبيه على التوقف للحظات ليتفرج و يستمع إلى الموسيقى المنبعثة من الكمان
و فى كل الأحوال, كانت اللحظات تمر سريعا ويستسلم الطفل لليد القوية المتأخرة على العمل
خلال حوالى 45 دقيقة .. عزف الرجل ست مقطوعات من أجمل ما كتب فى الموسيقى الكلاسيكية منها أعمال لباخ
و مرّ عليه خلالها أكثر من ألف شخص.. أغلبهم كان فى الطريق للعمل
من بين هؤلاء الألف, ستة أشخاص فقط جذبهم المشهد و الموسيقى و توقفوا للحظة ليستمعوا إليها
و قرابة 20 شخص ألقوا إليه بأرباع الدولارات لكن دون أن يتوقفوا
جمع الرجل فى هذه الفترة 32 دولار
عندما إنتهى من عزفه.. صمت كمانه لكن لم يصمت صخب الزحام
حمل كمانه و رحل .. لم يلحظه أحد
كما جاء , كما رحل
لكن الخبر يصبح غير عادى على الإطلاق عندما نعلم أن قبل هذا اليوم بثلاثة أيام كان نفس هذا الرجل هو العازف الرئيسى فى إحدى حفلات الأوبرا, و كان سعر التذكرة الواحدة لهذه الحفلة 100 دولار
و كان يعزف على نفس الكمان الذى يقدر سعره بأكثر من 3 مليون دولار
لكنه فى هذا الصباح البارد و المزدحم, لم يجنى هذا الرجل اكثر من 23 دولار فى المحطة
و لم يعرف واحد من الألف الذين مروا عليه أنه النجم " جاشوا بيل"
واحد من أشهر الفرتيوزو إن لم يكن أشهرهم الآن
- بيل فى المحطة -
- - - - - -
للروائى الانجليزى المثير للجدل "سومرست موم " قصة تسخر من نفاق أثرياء اليهود و عقدة النقص عندهم وجهادهم العنيد من أجل الاندماج فى المجتمع الإنجليزى و الظهور كنبلاء حقيقيين أوأصليين لكن دون جدوى دائماً
( تبقى الذقن المجدولة غير قابلة للإنصهار !!)
تحكى القصة عن يهودى جمع ثروة هائلة من المضاربة فى البورصة, و نشأ إبنه مفتونا بالموسيقى و كان حلمه الأبدى أن يصبح فرتيوزو شهير للبيانو.. أمضى الوقت الطويل و الجهد الكبير فى سبيل حلمه ذلك .. و كان الجميع يشهد له بالتمكن و المهارة و الاحتراف لكنه أبداً لم يصل للمكانة التى يستحق معها لقب فرتيوزو !!
كانت تبقى "مسافة إصبع صغيرة" - كم يقول فى القصة - بينه و بين حلمه هذا, مسافة هينة و مستحيلة فى آن.. لم يتمكن أبداً من إجتيازها .. فوضع حداً لحياته وانتحر !!
و هى فى "الفرتيوزو" Virtuoso أوضح ما تكون
الفرتيوزو هو العازف المنفرد الفريد.. وهو غير العازف الأول الموجود فى طاقم الأوركسترا نفسه
وأصحاب هذا اللقب منقسمون بين آلة البيانو وآلة الكمان ( أجدنى أنا مشدوداً للكمان أكثر رغم جلالة قدر البيانو لكن الكمان يسحرنى أكثر لصوته القريب من الصوت البشرى و ثراء نغماته و الحميمية نفسها بين العازف و فيولينه ... و الموضوع يطول فى ذلك ) .. ثمة آلات أخرى مثل الفلوت أو التشيللو أو الهارب السالتى (فى الأصل فرعونى) لكنها قليلة وربما نحتسب العود عندنا ( السنباطى و نصير شمة مثلا )
لا يصل لمرتبة الفيرتيوزو إلا قليل, و هم دوماً معدودون على الأصابع فى العالم كله
وهم مخلدون فى التاريخ و تحاك حولهم الكثير من الأساطير ..
وفرانتس ليست ( الذى كسر عظام كفه يوما عندما حاول مط أصابعها أو " تطويلها" ليتمكن من التحكم فى مفاتيح البيانو أكثر) و هو نفسه المؤلف الشهير صاحب Hungarian Rhapsody و La Campanella و معبود الصبايا فى عصره !!
و باجانينى الذى لم تكن تبارحه فيولينته حتى فى فراشه
- رحمانينوف -
الفرتيوزو هو نجم أى حفل
و شهرته قد تفوق شهرة المايسترو نفسه أو قائد الأوركسترا
المايسترو يعلم ذلك.. لذلك يكون الحفل الذى يصادف فيه أداء كونشيرتو مثلا ( حوار بين الاوركسترا بكاملها و بين الالة التى يعزف عليها الفرتوزو ) يكون وقتا صعبا على المايسترو الذى إعتاد و تعوّد على كل التصفيق و كل الثناء !!
الفيرتيوزو لا يحتاج إلى مايسترو أو نوتة ليتملى اللحن منها, فهو يحفظه ( و يحفظ قراءاته السبع ربما )
بعض قادة الأوركسترا العتاة يوفر على نفسه كل تلك الأحاسيس السيئة ولا يُضمن حفلاته أى كونشيرتو ليستفرد هو بكل الأضواء !!
جاشوا واحد من هؤلاء الكبار
سمعت أنه أصبح فرتيوزو قبل أن يتم العشرين من عمره
و شارك بالعزف مع أشهر الأوركسترا فى العالم
- - - - -
لا أتذكر المرة الأولى التى سمعت فيها عزف جاشوا بيل Joshua Bell ( البعض ينطقه جوشوا, لكننى سمعتهم ينادونه جاشوا خلال استضافته فى إحدى البرامج التلفزيونية )
ربما فى الفيلم الغريب The Red Violin , والأغرب من الفيلم ذاته و رحلة الكمان الفريدة, كان عزف الكمان فيه
و منذ المرة الأولى التى شاهدته فيها من زمن لم يفارقنى طيف هذا الكمان الأحمر
إن كنت شاهدت الفيلم فبالطبع ستتذكر معى هذا المشهد عندما وقعت الفيولينة فى يد الغجرية ( و إن كنت مثلى مفتون بصوت الكمان فتعلم ماذا يعنى كمان فى أيدى غجرية !!)
و من بعدها " بوب " العازف الشهير ( الموسيقى فى الحفلة, و الموسيقى خلال مشهد الخيانة بعدما رجعت زوجته الكاتبة من روسيا )
كان بوب فى الفيلم كمن باع روحه للشيطان فعلا
و كنت و لا زلت مقتنع أن الفيولين يستحق لأجله أن تبيع روحك لكل الشياطين
هكذا, كانت المرة الأولى التى أسمع فيها عزفا مثل هذا
و كانت المرة الأولى التى تقع عيناى على اسم جاشوا ( السولويست عازف الكمان فى موسيقى الفيلم ) و قبلها كان عقلى قد فتن بعزفه المبهر
لا أدرى ما الذى يميز جاشوا بالتحديد دون غيره من مشاهير الفيولينست ( عازفى الفيولين )
حتى أستاذ الأساتذة ومكتشف المواهب "إيزاك شتيرن" ( مكتشف بيرلمان ويو يو-ما أيضاً )
بيرلمان المشهود له لا يسحرنى كما جاشوا
( جمعنى لقاء ذات مرة مع إحدى عازفات الكمان فى الأوبرا و أخبرتها بشغفى بجاشوا مقارنة ببيرلمان رغم معرفتى بالفارق بينهما, فكما ذكرت بيرلمان أستاذ بامتياز
تفاجئت من ردها , فهى لم تستغرب رأيى لكنها قالت بيرلمان أستاذ نعم لكن لأنه استاذ ربما يهتم بحرفية الأداء و يظل محافظاً و مسيطراً على قواعد العزف بكل إتقان عكس بيل الذى تقمصته روح الشيطان فعلاً و يدع النغمة الشيطانية نفسها تقوده !!... ناهيك عن أن بيرلمان و عجزه المتمثل فى شلل الأطفال ربما يزيد توتره و يؤثر على صفاء أو روح عزفه )
ربما, و ربما عجزه ذلك يجعله يجاهد ليتشبث أكثر بالأرض عكس عزف بيل الطائر بخفة و حرية فى ملكوت الموسيقى
الفرق بين جاشوا و بيرلمان أو غيره كالفرق بين رفاييل و ميكلانجلوا
أو شيللر و جوته
علمت بعدها أن أسباباً عديدة صنعت هذا التميز و الإختلاف الذى تشعر به فى عزف جاشوا
معظم عازفى الفيولين الأشهر يهوداً ( لا أعلم تفسير ذلك تحديداً )
بيرلمان نفسه مولود فى اسرائيل ( و ثمة إسرائيلى أشهر قبله إسمه " هوبرمان ", و هو من أسس أوركسترا إسرائيل الذى ينافس أوركسترا نيويورك أو لندن !! )
المهم أن جاشوا لا يعرّف نفسه كيهودى قح .. يقول عن نفسه أنه ينتسب إلى ألطف الفئات اليهودية.. مجرد إنتساب .. روحه حرة إذن
جاشوا لا يزال يقضى وقت فراغه فى ألعاب الفيديو جيم التى يدمنها .. روح طفل حرة
( ولا تخدعك صورته, فعمره تجاوز الأربعين!!)
وفوق ذلك كله, تبقى الفيولينة الساحرة التى يملكها و يعزف بها مجرد إمتياز وتميز فى حد ذاتها
معظم عازفى الفيولين المشاهير يملكون فيولينات عتيقة كما جاشوا و ربما أقدم و أفخم
لكنهم لا يملكون روحه أو أياً من الأسباب الأخرى
لكنها أقنعتنى ليصبح جاشوا النجم بامتياز .. و الفيرتيوزو الذى باع روحه للشيطان و إستبدلها بروح ساحر
الفيولين التى يملكها جاشوا تعود تاريخ صناعتها إلى قرابة الثلاثة قرون
و تقدر قيمتها بأكثر من ثلاثة مليون دولار
و لها قصة طويلة من الأحداث الغريبة
كانت تعود ملكيتها إلى أحد العازفين المشهورين قبل أن يكتشف سرقتها
و يتم العثور عليها
لتذهب إلى عازف آخر و تتم سرقتها مرة أخرى ...
قبل أن تقع فى يد جاشوا أخيراً
الذى طالما كان حلمه الوحيد أن يقتنيها فى يوم
و لم لا ؟ و هى فيولين ماركة ستراديفاريوس أو ستراد الأسطورة
واحد من أشهر ثلاث عائلات إيطالية عاشت فى القرن السابع عشر تخصصت فى صناعة الفيولينات و الوتريات
عاش فى نفس المدينة و نفس العصر الذى عاش فيه صانع الفيولينات فى فيلم الفيولين الحمراء
لم يصدق جاشوا نفسه عندما وقعت الفيولينة الأثرية فى يده
و لم يمر وقت طويل حتى أخرج لنا أول منحوتاته الموسيقية الفاتنة Romance Of The Violin أعاد فيه عزف مجموعة من أحب الأعمال الموسيقية له ( أعمال لموتسارت و ديبوسى و شوبيرت و بورودين وغيرهم )
عاش فى نفس المدينة و نفس العصر الذى عاش فيه صانع الفيولينات فى فيلم الفيولين الحمراء
لم يصدق جاشوا نفسه عندما وقعت الفيولينة الأثرية فى يده
و لم يمر وقت طويل حتى أخرج لنا أول منحوتاته الموسيقية الفاتنة Romance Of The Violin أعاد فيه عزف مجموعة من أحب الأعمال الموسيقية له ( أعمال لموتسارت و ديبوسى و شوبيرت و بورودين وغيرهم )
أعمال طالما عزفها و يحفظها عن ظهر قلب
لكنها مختلفة هذه المرة.. فهو يعزف بالفيولينة المقدسة التى طالما حلم بها
وكل تلك الأنغام الشائعة التى نعرفها نسمعها هذه المرة كأنها لم تكن قبل ذلك.. لم تتواجد أو نسمعها من قبل
لكنها مختلفة هذه المرة.. فهو يعزف بالفيولينة المقدسة التى طالما حلم بها
وكل تلك الأنغام الشائعة التى نعرفها نسمعها هذه المرة كأنها لم تكن قبل ذلك.. لم تتواجد أو نسمعها من قبل
شاهدت The Soloist واعجبنى ولكن باقى ما ذكرتة فى التدوينة الرائعه جديد تماما على شكرا لك :)
ردحذفواااو
ردحذفمقال رائع جدا
لم احس بانهايته
مشوق جدا
رهيب
استمر
:)